القمار (إصابة الهدف المتحرك وأنت مغمض العينين )

القمار (إصابة الهدف المتحرك وأنت مغمض العينين )

هل يمكن أن نتراهن أنا وأنت على تخمين الإتجاه الذى ستغيب منه الشمس اليوم أو الذى ستظهر منه صباح الغد؟ .. طبعاً هذا غير معقول .. وإذا حاولنا ستكون لعبة سخيفة بلا معنى تنتهى بأن نسخر من أنفسنا ويشعر كل منا بالملل تجاه الأخر .. وسوف تعطينى ظهرك وأعطيك ظهرى ..

ولكن نستطيع إن نذهب الملل عن أنفسنا إذا حاولنا فى لعبة أخرى .. سأخفى قطعة نقود فى أحدى يدى ثم أطبق كلتا اليدين وأطلب منك أن تخمن فى أى يد تختبئ قطعة النقود .. إذا لم تعرف عليك أن تدفع لى .. وإذا عرفت على أن أدفع لك .. تصور موقفك فى هذه اللعبة .. إنها لعبة لا تحتاج إلى تفكير أو حسابات كما لا تحتاج إلى أى مهارة .. كلتا يدى مطبقتان وتختفى قطعة النقود .. إذن الموقف برمته مجهول بالنسبة لك .. وإذا أخترت أحدى اليدين فهذا مجرد تخمين منك غير قائم على أى أساس .. إختيارك لأحدى اليدين هو إختيار عشوائى ..

وانت تختار سوف تشعر بالتردد .. قد تقرر أن تختار اليد اليمنى .. ثم تتراجع لثوان وتقول لنفسك : قد تكون اليد اليسرى .. هنا تشعر بالقلق .. وإذا صح إختيارك سوف تشعر بفرحة كبيرة لأن تخمينك صدق .. لقد أصبت الهدف المتحرك وأنت معصوب العينين .. إنها لذة تفوق الذى يصوب ناحية هدف ثابت وهو حاد النظر .. لقد عثرت على القطة السوداء فى الحجرة المظلمة وأنت معصوب العينين .. إنه الإنتصار على المجهول .. المجهول الذى يخيفنا .. المجهول الذى لا نعرف عنه شيئاً .. المجهول الذى لا نعرف ماذا يُخبئ لنا .. المجهول الذى يؤكد جهلنا وعجزنا ..

الإنسان دائماً يعشق توقع نتائج من أحداث عشوائية وهو على إستعداد أحياناً أن يخاطر بأمواله وحتى بحياته من أجل أن يتوقع شيئاً وأن يكون توقعه صحيحاً .. وفى ذلك الإنتصار على القلق .. قلق التحرك فى غرفة مظلمة معصوب العينين .. وفرحة العثور على القطة السوداء .. وهذه الحجرة المظلمة ندخلها بإرادتنا ..والعصابة نضعها على أعيننا بأيدينا .. أى أننا نخاطر ..

نخاطر لأن عشق الإنسان ليثبت أنه قادر على سبر أغوار المجهول .. قادر على توقع نتائج صحيحة من خلال أحداث عشوائية .

نخاطر لكى نذيب الأكتئاب المسيطر على نفوسنا ، فالإكتئاب موت وركود .. والإكتئاب كثلاجة الموتى تحتوى الإنسان وهو حى .. ولا سبيل للهروب منها إلا بلحظات إثارة تكون كالنار التى تتراجع أمامها الثلوج ..

نخاطر فإذا فشلنا نشعر بشفاء نفوسنا التى يعذبها الإحساس بالندم لذنب أقترفناه ..

وهكذا القمار يا صاحبى .. فهو إتفاق بين شخصين أو أكثر .. وينتقل المال من واحد إلى الأخر .. فمكسب إنسان يكون على حساب خسارة إنسان أخر .. ونتائج اللعبة تعتمد على المخاطرة فى موقف غير مؤكد .. أى أن النتائج غير معروفة .. هذه الرغبة غير مفهومة .. ولكن فى كل الأحوال الحصول على المال ليس هو الهدف ..

أسباب القمار

القمار عرضاً وليس مرضاً .. قد يكون عرضاً لمرض الإكتئاب .. محاولة لبعث الحرارة فى ثلاجة الموتى التى تحتوى نفسه .. محاولة لبعث الحركة فى مجرى دمائه الراكدة .. محاولة لإثارة عاصفة تمحو بعض الأسن الذى غطى روحه .. المقامرة بالنقود وليس من أجل النقود .. ولابد من الخسارة لأنها بديل الإنتحار .. ولا علاج إلا بعلاج الإكتئاب ..

.. وقد يكون القمار عرضاً فى مرض الهوس .. والهوس عكس الإكتئاب تماماً .. حيث الفرحة العارمة الزائفة والنشاط والحماس والإندفاع والإنفصال عن الواقع وعدم إدراك العواقب .. مريض الهوس قد يبعثر نقوده فى الشارع بلا وعى وأيضاً يبعثرها بلا وعى على مائدة القمار ..

وقد يغرق الإنسان نفسه على مائدة القمار للهروب من الضغوط والمشاكل التى تحاصره .. ضغوط من كل جانب ومشاكل بلا حلول .. بعضها مشاكل عاطفية .. بعضها مشاكل زوجية والمقامرة هنا تكون وسيلة لمعاقبة الطرف الأخر ..

.. والقمار قد يكون رغبة قهرية .. فى شئ يشبه مرض الوسواس القهرى حين تسيطر على الإنسان فكرة أو رغبة إندفاعية لا يستطيع أن يقاومها .. رغبة قهرية وحنين إلى اللعب مع الشعور بالخوف لأنه فقد السيطرة .. ويظل يلعب حتى يفقد ماله أو يتعرض للسجن .. وهنا تزيد الرغبة العارمة .. هذا النوع هو الذى يسبب أكثر المشاكل الإقتصادية والإجتماعية .. وإذا كان يشغل منصباً حساساً يظل يلعب لسنوات دون أن يكتشف أحد أمره ..

والقمار أحياناً يكون وسيلة لعقاب الذات .. إنه الإحساس بالذنب المسيطر فى حالة الإكتئاب بالرغم من عدم وجود أعراض إكتئابية واضحة ..

وقد يكون فترة عابرة فى حياة الإنسان تحت تأثير الأصدقاء .. المقامرة هنا تكون غير منتظمة .. ويمكن مقاومتها .. ويمكن أن يتوقف نهائياً إذا وجد مساندة ومساعدة من المحيطين من الذين يهمهم أمره عن حب .. القمار إذن ليس مرضاً ولكنه سلوك مرضى لمعاجة مرض أخر أو معاناة ..

بعض الحالات تحتاج إلى علاج طبى نفسى ..

بعض الحالات الأخرى تحتاج إلى الحب .. الحب من إنسان مخلص يحرص عليه لينتشله برفق وليس بغضب ..